فصل: فَصَلٌ: مُنْكِرُو الْبَعْثِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول (نسخة منقحة)



.فَصَلٌ: مُنْكِرُو الْبَعْثِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ:

ثُمَّ مُنْكِرُو الْبَعْثِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ:
صِنْفٌ أَنْكَرُوا الْمَبْدَأَ وَالْمَعَادَ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْأَكْوَانَ تَتَصَرَّفُ بِطَبِيعَتِهَا فَتُوجَدُ وَتَعْدَمُ بِأَنْفُسِهَا، لَيْسَ لَهَا رَبٌّ يَتَصَرَّفُ فِيهَا، إِنَّمَا هِيَ أَرْحَامٌ تَدْفَعُ وَأَرْضٌ تَبْلَعُ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ جُمْهُورُ الْفَلَاسِفَةِ الدَّهْرِيَّةِ وَالْطَبَائِعِيَّةِ.
وَالصِّنْفُ الثَّانِي مِنَ الدَّهْرِيَّةِ طَائِفَةٌ يُقَالُ لَهُمُ الدَّوْرِيَّةُ، وَهُمْ مُنْكِرُونَ لِلْخَالِقِ أَيْضًا وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ فِي كُلِّ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ سَنَةٍ يَعُودُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَيَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ وَزَعَمُوا أَنَّ هَذَا قَدْ تَكَرَّرَ مَرَّاتٍ لَا تَتَنَاهَى فَكَابَرُوا فِي الْمَعْقُولِ وَكَذَّبُوا الْمَنْقُولَ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَهَاتَانِ الطَّائِفَتَانِ يَعُمُّهُمْ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الْجَاثِيَةِ: 34]، وَلِهَذَا عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِيهَا تَفْسِيرَانِ الْأَوَّلُ مَعْنَى قَوْلُهُمْ {نَمُوتُ وَنَحْيَا} أَيْ يموت الآباء ويحيا الْأَبْنَاءُ هَكَذَا أَبَدًا، وَهُوَ قَوْلُ الطَّائِفَةِ الْأُولَى وَالْمَعْنَى الثَّانِي أَنَّهُمْ عَنَوْا كَوْنَهُمْ يَمُوتُونَ وَيُحْيَوْنَ هُمْ أَنْفُسُهُمْ وَيَتَكَرَّرُ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَبَدًا وَلَا حِسَابَ وَلَا جَزَاءَ، بل ولا موجد وَلَا مُعْدَمَ وَلَا مُحَاسِبَ وَلَا مُجَازِيَ، وَهَذَا قَوْلُ الدَّوْرِيَّةِ.
الصِّنْفُ الثَّالِثُ الدَّهْرِيَّةُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ، وَهُمْ مُقِرُّونَ بِالْبُدَاءَةِ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَبُّهُمْ وَخَالِقُهُمْ {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزُّخْرُفِ: 87]، وَمَعَ هَذَا قَالُوا {إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ} [الدُّخَانِ: 35]، فَأَقَرُّوا بِالْبُدَاءَةِ وَالْمُبْدِئِ، وَأَنْكَرُوا الْبَعْثَ وَالْمَعَادَ وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الصَّحِيحِ «وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ».
وَالصِّنْفُ الرَّابِعُ مَلَاحِدَةُ الْجَهْمِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ، أَقَرُّوا بِمَعَادٍ لَيْسَ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِيمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، بَلْ زَعَمُوا أَنَّ هَذَا الْعَالَمَ يَعْدَمُ عَدَمًا مَحْضًا وَلَيْسَ الْمَعَادُ هُوَ بَلْ عَالَمٌ آخَرُ غَيْرُهُ، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْأَرْضُ الَّتِي تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا وَتُخْبِرُ بِمَا عُمِلَ عَلَيْهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ لَيْسَتْ هِيَ هَذِهِ، وَتَكُونُ الْأَجْسَادُ الَّتِي تُعَذَّبُ وَتُجَازَى وَتَشْهَدُ عَلَى مَنْ عَمِلَ بِهَا الْمَعَاصِي لَيْسَتْ هِيَ الَّتِي أُعِيدَتْ بَلْ هِيَ غَيْرُهَا، وَالْأَبْدَانُ التي تنعم في الجنة وَتُثَابُ لَيْسَتْ هِيَ الَّتِي عَمِلَتِ الطَّاعَةَ وَلَا أَنَّهَا تَحَوَّلَتْ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، بَلْ هِيَ غَيْرُهَا تُبْتَدَأُ ابْتِدَاءً مَحْضًا، فَأَنْكَرُوا مَعَادَ الْأَبْدَانِ وَزَعَمُوا أَنَّ الْمَعَادَ بَدَاءَةٌ أُخْرَى وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِمْ فِي كَافِيَتِهِ.
وَقَضَى بِأَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ خَلْقَهُ ** عَدَمًا وَيُقَلِّبُهُ وُجُودًا ثَانِي

الْعَرْشُ وَالْكُرْسِيُّ وَالْأَرْوَاحُ وَالْـ ** أَمْلَاكُ وَالْأَفْلَاكُ وَالْقَمَرَانِ

وَالْأَرْضُ وَالْبَحْرُ وَالْمُحِيطُ وَسَائِرُ الْـ ** أَكْوَانِ مِنْ عَرْضٍ وَمِنْ جُثْمَانِ

كُلٌّ سَيُفْنِيهِ الْفَنَاءُ الْمَحْضُ لَا ** يَبْقَى لَهُ أَثَرٌ كَظِلِّ فَانِ

وَيُعِيدُ ذَا الْمَعْدُومِ أَيْضًا ثَانِيًا ** مَحْضُ الْوُجُودِ إِعَادَةٌ بِزَمَانِ

هَذَا الْمَعَادُ وَذَلِكَ الْمَبْدَأُ لَدَى ** جَهْمٍ وَقَدْ نَسَبُوهُ لِلْقُرْآنِ

هَذَا الَّذِي قَادَ ابْنَ سِينَا وَالْأُلَى ** قَالُوا مَقَالَتَهُ إِلَى الْكُفْرَانِ

لَمْ تَقْبَلِ الْأَذْهَانُ ذَا وَتَوَهَّمُوا ** أَنَّ الرَّسُولَ عَنَاهُ بِالْإِيمَانِ

هَذَا كِتَابُ اللَّهِ أَنَّى قَالَ ذَا ** أَوْ عَبْدُهُ الْمَبْعُوثُ بِالْبُرْهَانِ

أَوْ صَحْبُهُ مِنْ بَعْدِهِ أَوْ تَابِعٌ ** لَهُمُو عَلَى الْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ

بَلْ صَرَّحَ الْوَحْيُ الْمُبِينُ بِأَنَّهُ ** حَقًّا مُغَيِّرُ هَذِهِ الْأَكْوَانِ

فَيُبَدِّلُ الله السماوات العلا ** وَالْأَرْضَ أَيْضًا ذَانِ تَبْدِيلَانِ

وَهُمَا كَتَبْدِيلِ الجلود لساكني ** النيران عِنْدَ النُّضْجِ مِنْ نِيرَانِ

وَكَذَاكَ يَقْبِضُ أَرْضَهُ وَسَمَاءَهُ ** بِيَدَيْهِ مَا الْعَدَمَانِ مَقْبُوضَانِ

وَتُحَدِّثُ الْأَرْضُ الَّتِي كُنَّا بِهَا ** أَخْبَارَهَا فِي الْحَشْرِ لِلرَّحْمَنِ

وَتَظَلُّ تَشْهَدُ وَهِيَ عَدْلٌ بِالَّذِي ** مِنْ فَوْقِهَا قَدْ أَحْدَثَ الثَّقَلَانِ

أَفَيَشْهَدُ الْعَدَمُ الَّذِي هُوَ كَاسْمِهِ ** لَا شَيْءَ هَذَا لَيْسَ فِي الْإِمْكَانِ

لَكِنْ تُسَوَّى ثُمَّ تبسط ثم تشهد ** ثُمَّ تُبَدَّلُ وَهِيَ ذَاتُ كِيَانِ

وَتُمَدُّ أَيْضًا مِثْلَ مَدِّ أَدِيمِنَا ** مِنْ غَيْرِ أَوْدِيَةٍ وَلَا كُثْبَانِ

وَتَقِيءُ يَوْمَ الْعَرْضِ مِنْ أَكْبَادِهَا ** كَالِاسْطُوَانِ نَفَائِسُ الْأَثْمَانِ

كُلٌّ يَرَاهُ بِعَيْنِهِ وَعِيَانِهِ ** مَا لِامْرِئٍ بِالْأَخْذِ مِنْهُ يَدَانِ

وَكَذَا الْجِبَالُ تُفَتُّ فَتًّا مُحْكَمًا ** فَتَعُودُ مِثْلَ الرَّمْلِ ذِي الْكُثْبَانِ

وَتَكُونُ كَالْعِهْنِ الَّذِي لَوْ أَنَّهُ ** وَصِبَاغُهُ مِنْ سَائِرِ الْأَلْوَانِ

وَتُبَسُّ بَسًّا مِثْلَ ذَاكَ فَتَنْثَنِي ** مِثْلَ الْهَبَاءِ لِنَاظِرِ الْإِنْسَانِ

وَكَذَا الْبِحَارُ فَإِنَّهَا مَسْجُورَةٌ ** قَدْ فُجِّرَتْ تَفْجِيرَ ذِي سُلْطَانِ

وَكَذَلِكَ الْقَمَرَانِ يَأْذَنُ رَبُّنَا ** لَهُمَا فَيَجْتَمِعَانِ يَلْتَقِيَانِ

هَذِي مُكَوَّرَةٌ وَهَذَا خَاسِفٌ ** وَكِلَاهُمَا فِي النَّارِ مَطْرُوحَانِ

وَكَوَاكِبُ الْأَفْلَاكِ تُنْثَرُ كُلُّهَا ** كَلَآلِئٍ نُثِرَتْ عَلَى مَيْدَانِ

وَكَذَا السَّمَاءُ تُشَقُّ شَقًّا ظَاهِرًا ** وَتَمُورُ أَيْضًا أَيَّمَا مَوَرَانِ

وَتَصِيرُ بَعْدَ الانشقاق كمثل هذا ** الْمُهْلِ أَوْ تَكُ وَرْدَةً كَدِهَانِ

وَالْعَرْشُ وَالْكُرْسِيُّ لَا يُفْنِيهِمَا ** أَيْضًا وَإِنَّهُمَا لَمَخْلُوقَانِ

وَالْحُورُ لَا تَفْنَى كذلك جنة ** المأوى وَمَا فِيهَا مِنَ الْوِلْدَانِ

وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ جَهْمٌ إِنَّهَا ** عَدَمٌ وَلَمْ تُخْلَقْ إِلَى ذَا الْآنِ

وَالْأَنْبِيَاءُ فَإِنَّهُمْ تَحْتَ الثَّرَى ** أَجْسَادُهُمْ حُفِظَتْ مِنَ الدِّيدَانِ

مَا لِلْبِلَى بِلُحُومِهِمْ وَجُسُومِهِمْ ** أَبَدًا وَهُمْ تَحْتَ التُّرَابِ يَدَانِ

وَكَذَاكَ عَجَبُ الظَّهْرِ لَا يَبْلَى بَلَى ** مِنْهُ تُرَّكَبُ خِلْقَةُ الْإِنْسَانِ

وَكَذَلِكَ الْأَرْوَاحُ لَا تَبْلَى كَمَا ** تَبْلَى الْجُسُومُ وَلَا بَلَى اللَّحِمَانِ

وَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يُقِرَّ الْجَهْمُ مَا ** الْأَرْوَاحُ خَارِجَةٌ عَنِ الْأَبْدَانِ

لَكِنَّهَا مِنْ بَعْضِ أَعْرَاضٍ بِهَا ** قَامَتْ وَذَا فِي غَايَةِ الْبُطْلَانِ

فَالشَّأْنُ لِلْأَرْوَاحِ بَعْدَ فِرَاقِهَا ** أَبْدَانَهَا وَاللَّهُ أَعْظَمُ شَانِ

إِمَّا عَذَابٌ أَوْ نُعَيْمٌ دَائِمٌ ** قَدْ نَعِمَتْ بِالرَّوْحِ وَالرَّيْحَانِ

وَتَصِيرُ طَيْرًا سَارِحًا مَعَ شَكْلِهَا ** تَجْنِي الثِّمَارَ بِجَنَّةِ الْحَيَوَانِ

وَتَظَلُّ وَارِدَةً لِأَنْهَارٍ بِهَا ** حَتَّى تَعُودَ لِذَلِكَ الْجُثْمَانِ

لَكِنَّ أَرْوَاحَ الَّذِينَ اسْتُشْهِدُوا ** فِي جَوْفِ طَيْرٍ أَخْضَرٍ رِيَّانِ

فَلَهُمْ بِذَاكَ مَزِيَّةٌ فِي عيشهم ** ونعيمهم للأرواح وَالْأَبْدَانِ

بَذَلُوا الْجُسُومَ لِرَبِّهِمْ فَأَعَاضَهُمْ ** أَجْسَامَ تِلْكَ الطَّيْرِ بِالْإِحْسَانِ

وَلَهَا قَنَادِيلٌ إِلَيْهَا تَنْتَهِي ** مَأْوَى لَهَا كَمَسَاكِنِ الْإِنْسَانِ

فَالرُّوحُ بَعْدَ الْمَوْتِ أَكْمَلُ حَالَةٍ ** مِنْهَا بِهَذِي الدَّارِ فِي جُثْمَانِ

وَعَذَابُ أَشْقَاهَا أَشَدُّ مِنَ الَّذِي ** قَدْ عَايَنَتْ أَبْصَارُنَا بِعِيَانِ

وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهَا عَرَضٌ أَبَوْا ** ذَا كُلَّهُ تَبًّا لِذِي نُكْرَانِ

وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ إِخْرَاجَ الْوَرَى ** بَعْدَ الْمَمَاتِ إِلَى الْمَعَادِ الثَّانِي

أَلْقَى عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي هُمْ تَحْتَهَا ** وَاللَّهُ مُقْتَدِرٌ وَذُو سُلْطَانِ

مَطَرًا غَلِيظًا أَبْيَضًا مُتَتَابِعًا ** عَشْرًا وَعَشْرًا بَعْدَهَا عَشْرَانِ

فَتَظَلُّ تَنْبُتُ مِنْهُ أَجْسَامُ الْوَرَى ** وَلُحُومُهُمْ كَمَنَابِتِ الرَّيْحَانِ

حَتَّى إِذَا مَا الْأُمُّ حَانَ وِلَادُهَا ** وَتَمَخَّضَتْ فَنِفَاسُهَا مُتَدَانِ

أَوْحَى لَهَا رَبُّ السَّمَا فَتَشَقَّقَتْ ** فَبَدَا الْجَنِينُ كَأَكْمَلِ الشُّبَّانِ

وَتَخَلَّتِ الْأُمُّ الْوَلُودُ وَأَخْرَجَتْ ** أَثْقَالُهَا أُنْثَى وَمِنْ ذُكْرَانِ

وَاللَّهُ يُنْشِئُ خَلْقَهُ فِي نَشْأَةٍ ** أُخْرَى كَمَا قَدْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ

هَذَا الَّذِي جَاءَ الكتاب وسنة ** الهادي بِهِ فَاحْرِصْ عَلَى الْإِيمَانِ

مَا قَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْدَمُ خَلْقَهُ ** طُرًّا كَقَوْلِ الْجَاهِلِ الْحَيْرَانِ

قَوْلُهُ هَذَا الْمَعَادُ وَذَلِكَ الْمَبْدَأُ لَدَى جَهْمٍ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ وَتَقَدَّمَ تَرْجَمَةُ جَهْمٍ وَبَيَانُ مَذْهَبِهِ وَعَمَّنْ أَخَذَهُ وَمَنْ أَخَذَ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ وَهُوَ الَّذِي قَادَ ابْنَ سِينَا هُوَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ سِينَا وَاسْمُهُ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ رَئِيسُ الْفَلَاسِفَةِ وَمُهَذِّبُ مَذْهَبِهِمْ، لَهُ كِتَابُ الْإِشَارَاتِ الَّذِي هَذَّبَ فِيهِ مَذْهَبَ أَرِسْطُو وَقَرَّبَهُ قَلِيلًا إِلَى الْأَدْيَانِ وَكَانَ-فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ- يَقُولُ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَإِنْكَارِ الْمَعَادِ وَنَفْيِ عِلْمِ الرَّبِّ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ الْعَالِمَ وَبَعْثِهُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، وَكَانَ ابْنُ سِينَا هَذَا تَفَقَّهَ مَذْهَبَ الْفَلَاسِفَةِ مِنْ كُتُبِ الْفَارَابِيِّ أَبِي نَصْرٍ التُّرْكِيِّ الْفَيْلَسُوفِ وَكَانَ الْفَارَابِيُّ هَذَا قَبَّحَهُ اللَّهُ يَقُولُ بِالْمَعَادِ الرُّوحَانِيِّ لَا الْجُثْمَانِيِّ، وَيُخَصِّصُ بِالْمَعَادِ الْأَرْوَاحَ الْعَالِمَةَ لَا الْجَاهِلَةَ وَلَهُ مَذَاهِبُ فِي ذَلِكَ، يُخَالِفُ الْمُسْلِمِينَ وَالْفَلَاسِفَةَ مِنْ سَلَفِهِ الْأَقْدَمِينَ، وَتَحَمَّلَ ذَلِكَ عَنْهُ ابْنُ سِينَا وَنَصَرَهُ، وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ الْغَزَالِيُّ فِي تَهَافُتِ الْفَلَاسِفَةِ فِي عِشْرِينَ مَجْلِسًا لَهُ، كَفَّرَهُ فِي ثَلَاثٍ مِنْهَا وَهِيَ قَوْلُهُ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَعَدَمِ الْمَعَادِ الْجُثْمَانِيِّ وَقَوْلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ وَبَدَّعَهُ فِي الْبَوَاقِي قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ وَيُقَالُ إِنَّهُ تَابَ عِنْدَ الْمَوْتِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْأُلَى قَالُوا مَقَالَتَهُ إِلَى الْكُفْرَانِ يَعْنِي بِذَلِكَ أَتْبَاعَ ابْنِ سِينَا وَأَنْصَارَ زَنْدَقَتِهِ وَمِنْ أَكْبَرِهِمْ وَأَشْهَرِهِمُ النَّصِيرُ الطُّوسِيُّ وَاسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَيُقَالُ لَهُ الْخَوَاجَا نَصِيرُ الدِّينِ فَإِنَّهُ انْتُدِبَ لِنَصْرِ مَذْهَبِ ابْنِ سِينَا وَالذَّبِّ عَنْهُ وَقَامَ فِي ذَلِكَ وَقَعَدَ وَشَرَحَ إِشَارَاتِهِ وَكَانَ يُسَمِّيهَا فِيمَا يَزْعُمُونَ قُرْآنَ الْخَاصَّةِ، وَيُسَمِّي كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى قُرْآنَ الْعَامَّةِ، وَرَدَّ عَلَى الشِّهْرِسْتَانِيِّ فِي مُصَارَعَتِهِ ابْنَ سِينَا بِكِتَابٍ سَمَّاهُ مُصَارَعَةَ الْمُصَارِعِ، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ وَقَفْنَا عَلَى الْكِتَابَيْنِ نَصَرَ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَخْلُقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا وَأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا بِقُدْرَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَلَا يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ وَذَكَرَ عَنْهُ أَنَّهُ تَعَلَّمَ السِّحْرَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ فَكَانَ سَاحِرًا يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ إِلَى أَنْ قَالَ وَبِالْجُمْلَةِ فَكَانَ هَذَا الْمُلْحِدُ هُوَ وَأَتْبَاعُهُ مِنَ الْكَافِرِينَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قُلْتُ وَكَانَ الطُّوسِيُّ هَذَا فِيمَا ذَكَرَ أَهْلُ التَّارِيخِ وَزِيرًا لِهُولَاكُو خَانْ وَهُوَ الَّذِي بَنَى الرَّصَدَ بِمَرَاغَةَ وَرَتَّبَ فِيهِ الْحُكَمَاءَ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَالْأَطِبَّاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَنَقَلَ إِلَيْهَا أَوْقَافَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ النَّفَقَاتِ وَالْمَكَاتِبِ وَغَيْرِهَا قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّهُ عَمِلَ الرَّصَدَ بِمَدِينَةِ مَرَاغَةَ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ فَعَمِلَ دَارَ حِكْمَةٍ وَرَتَّبَ فِيهَا فَلَاسِفَةً وَرَتَّبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، وَدَارَ طِبٍّ فِيهَا لِلطَّبِيبِ فِي الْيَوْمِ دِرْهَمَانِ، وَمَدْرَسَةً لِكُلِّ فَقِيهٍ فِي الْيَوْمِ دِرْهَمٌ، وحديث لِكُلِّ مُحَدِّثٍ نِصْفُ دِرْهَمٍ فِي الْيَوْمِ وَقَدْ أَطَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْكَلَامِ عَلَيْهِ فَلْيُرَاجَعْ، وَأَمَّا هُولَاكُو خَانْ مَلِكُ التَّتَارِ الَّذِي كَانَ الطُّوسِيُّ وَزِيرًا لَهُ فَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ هَلَاكَهُ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ وَقَالَ كَانَ مَلِكًا جَبَّارًا كَفَّارًا لَعَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى، قَتَلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ شَرْقًا وَغَرْبًا مَا لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا الَّذِي خَلَقَهُمْ وَسَيُجَازِيهِ عَلَى ذَلِكَ شَرَّ الْجَزَاءِ كَانَ لَا يَتَقَيَّدُ بِدِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ وَإِنَّمَا كَانَتْ زَوْجَتُهُ ظُفْرُ خَاتُونَ قَدْ تَنَصَّرَتْ وَكَانَتْ تُفَضِّلُ النَّصَارَى عَلَى سَائِرِ الْخَلْقِ، وَكَانَ أَهْلُهَا مِنْ أَفْرَاخِ الْفَلَاسِفَةِ لَهُمْ عِنْدَهُ وَجَاهَةٌ وَمَكَانَةٌ، وَهُوَ كَانَ يَتَرَامَى عَلَى مَحَبَّةِ الْمَعْقُولَاتِ وَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهَا شَيْئًا وَإِنَّمَا كانت هِمَّتُهُ فِي تَدْبِيرِ الْمُلْكِ وَتَمَلُّكِ الْبِلَادِ شَيْئًا فَشَيْئًا، حَتَّى أَبَادَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَدُفِنَ فِي مَدِينَةِ تَلَا، لَا رَحِمَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:
وَقَوْلُ ابْنِ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
بَلْ صَرَّحَ الْوَحْيُ الْمُبِينُ بِأَنَّهُ ** حَقًّا مُغَيِّرُ هَذِهِ الْأَكْوَانِ

إِلَخْ.
يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إِبْرَاهِيمَ: 48]، الْآيَاتِ، وَإِلَى مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ كَقُرْصَةِ النَّقِيِّ، لَيْسَ فِيهَا مَعْلَمٌ لِأَحَدٍ».
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَكُونُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً، يَتَكَفَّؤُهَا الْجَبَّارُ بِيَدِهِ كَمَا يَتَكَفَّأُ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ فِي السَّفَرِ نُزُلًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ».
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: «أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إِبْرَاهِيمَ: 48]. قَالَتْ قُلْتُ أَيْنَ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ عَلَى الصِّرَاطِ».
وَفِيهِ مِنْ حَدِيثِ الْيَهُودِيِّ الَّذِي سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «هُمْ فِي الظُّلْمَةِ دُونَ الْجِسْرِ» الْحَدِيثَ.
وَلِابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَبِي أَيُّوبٍ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ حَبْرًا مِنَ الْيَهُودِ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إِذْ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إِبْرَاهِيمَ: 48]، فَأَيْنَ الْخَلْقُ عِنْدَ ذَلِكَ فَقَالَ: «أَضْيَافُ اللَّهِ، فَلَنْ يُعْجِزَهُمْ مَا لَدَيْهِ» وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا وَفِي حَدِيثِ الصُّورِ الطَّوِيلِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يُبَدِّلُ اللَّهُ الْأَرْضَ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ فَيَبْسُطُهَا وَيَمُدُّهَا مَدَّ الْأَدِيمِ الْعُكَاظِيِّ، لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا ثُمَّ يَزْجُرُ اللَّهُ الْخَلْقَ زَجْرَةً فَإِذَا هُمْ فِي هَذِهِ الْمُبْدَلَةِ» وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَشَارَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَتُمَدُّ أَيْضًا مِثْلَ مَدِّ أَدِيمِنَا إِلَخْ الْبَيْتِ وَقَوْلُهُ وَهُمَا كَتَبْدِيلِ الْجُلُودِ لِسَاكِنِي النِّيرَانِ إِلَى آخَرَ، يُشِيرُ إِلَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النِّسَاءِ: 56]، وَوَجْهُ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ التَّبْدِيلَيْنِ أَنَّ جُلُودَ الْكُفَّارِ كُلَّمَا احْتَرَقَتْ قِيلَ لَهَا عُودِي فَعَادَتْ كَمَا كَانَتْ وَمَعْنَى قَوْلِهِ غَيْرَهَا أَيْ صَارَتْ غيرها لعودها بعد ما نَضِجَتْ وَاحْتَرَقَتْ، وَإِلَّا فَهِيَ هِيَ الَّتِي عَمِلَتِ الْمَعَاصِيَ فِي الدُّنْيَا وَبِهَا تُجَازَى فِي الْآخِرَةِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُبَدَّلُونَ جُلُودًا بِيضًا أَمْثَالَ الْقَرَاطِيسِ يَعْنِي تُجَدَّدُ لَهُمُ الْجُلُودُ الَّتِي نَضِجَتْ كَذَلِكَ لِيَتَجَدَّدَ لَهُمُ الْعَذَابُ أَبَدًا وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ وَكَذَلِكَ تَبْدِيلُ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ هُوَ تَغْيِيرُهَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَإِلَّا فَهِيَ هِيَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَلِكَ يَقْبِضُ أَرْضَهُ وَسَمَاءَهُ بِيَدَيْهِ إِلَخْ يُشِيرُ إِلَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 104]، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزُّمَرِ: 67].
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَحْبَارِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّا نَجِدُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَجْعَلُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ وَالْأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ فَيَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزُّمَرِ: 67]، الْآيَةَ.
وَلِلْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ مَرَّ يَهُودِيٌّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فَقَالَ: كَيْفَ تَقُولُ يَا أَبَا الْقَاسِمِ يَوْمَ يَجْعَلُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى السَّمَاءَ عَلَى ذِهْ وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ، وَالْأَرْضَ عَلَى ذِهْ وَالْجِبَالَ عَلَى ذِهْ وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى ذِهْ، كُلُّ ذَلِكَ وَيُشِيرُ بِأَصَابِعِهِ قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزُّمَرِ: 67]، الْآيَةَ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَقْبِضُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ».
وَفِيهِمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقْبِضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ وَتَكُونُ السَّمَاوَاتُ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ».
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: «يَأْخُذُ اللَّهُ تبارك وتعالى سمواته وَأَرْضَهُ بِيَدِهِ وَيَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ-وَيَقْبِضُ أَصَابِعَهُ وَيَبْسُطُهَا- أَنَا الْمَلِكُ، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ يَتَحَرَّكُ مِنْ أَسْفَلِ شَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى إِنِّي لَأَقُولُ أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وَلَفْظُ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزُّمَرِ: 67]، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: هَكَذَا بِيَدِهِ يُحَرِّكُهَا، يُقْبِلُ بِهَا وَيُدْبِرُ يُمَجِّدُ الرَّبُّ نَفْسَهُ أَنَا الْجَبَّارُ أَنَا الْمُتَكَبِّرُ أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الْعَزِيزُ أَنَا الْكَرِيمُ. فَرَجَفَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرُ حَتَّى قُلْنَا لَيَخِرَّنَّ بِهِ».
وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ يَطْوِي اللَّهُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْخَلِيقَةِ، وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْخَلِيقَةِ، يَطْوِي ذَلِكَ كُلَّهُ بِيَمِينِهِ، يَكُونُ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ خَرْدَلَةٍ.
وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَتُحَدِّثُ الْأَرْضُ الَّتِي كُنَّا بِهَا، أَخْبَارَهَا إِلَخْ يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزَّلْزَلَةِ: 4-5]، وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هَذِهِ الْآيَةَ {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزَّلْزَلَةِ: 4] «أَتَدْرُونَ مَا أَخْبَارُهَا» قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: «فَإِنَّ أَخْبَارَهَا أَنْ تَشْهَدَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ بِمَا عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا، أَنْ تَقُولَ عَمِلَ كَذَا وَكَذَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَهَذِهِ أَخْبَارُهَا» ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ يَزِيدَ سَمِعَ رَبِيعَةُ الْجُرَشِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تَحَفَّظُوا مِنَ الْأَرْضِ فَإِنَّهَا أُمُّكُمْ، وَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ عَامِلٌ عَلَيْهَا خَيْرًا أَوْ شَرًّا إِلَّا وَهِيَ مُخْبَرَةٌ» وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوْحَى لَهَا وَأَوْحَى إِلَيْهَا، وَوَحَى لَهَا وَوَحَى إِلَيْهَا وَاحِدٌ وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ لَهَا ربها قولي فقالت، وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَوْحَى لَهَا أَيْ أَمَرَهَا.
وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
وَتَقِيءُ يَوْمَ الْعَرْضِ مِنْ أَكْبَادِهَا ** كَالِاسْطُوَانِ نَفَائِسُ الْأَثْمَانِ

كُلٌّ يَرَاهُ بِعَيْنِهِ إِلَخْ، يُشِيرُ إِلَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزَّلْزَلَةِ: 2]، وَإِلَى مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تُلْقِي الْأَرْضُ أَفْلَاذَ كَبِدِهَا أَمْثَالَ الْأُسْطُوَانِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَيَجِيءُ الْقَاتِلُ فَيَقُولُ فِي هَذَا قَتَلْتُ، ويجيء القاطع فيقول فِي هَذَا قَطَعْتُ رَحِمِي، وَيَجِيءُ السَّارِقُ فَيَقُولُ فِي هَذَا قُطِعَتْ يَدِي، ثُمَّ يَدْعُونَهُ فَلَا يَأُخُذُونَ مِنْهُ شَيْئًا».
وَقَوْلُهُ وَكَذَا الْجِبَالُ تُفَتُّ فَتًّا مُحْكَمًا إِلَخْ يُشِيرُ إِلَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} [طه: 106]، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النَّمْلِ: 88]، الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الْوَاقِعَةِ: 5 6]، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} [الْمَعَارِجِ: 9]، وَفِي سُورَةِ الْقَارِعَةِ {كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [الْقَارِعَةِ: 5]، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} [الْمُزَّمِّلِ: 14]، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ} [الْمُرْسَلَاتِ: 10]، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التَّكْوِيرِ: 3]، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} [النَّبَأِ: 20]، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الْحَاقَّةِ: 14]، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} [الْكَهْفِ: 47]، وَمَا فِي مَعَانِيهَا مِنَ الْآيَاتِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سَأَلَ رَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ تَكُونُ الْجِبَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} أَيْ هَلْ تَبْقَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ تَزُولُ {فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [طه: 105]، أَيْ يُذْهِبُهَا عَنْ أَمَاكِنِهَا وَيُسَيِّرُهَا تَسْيِيرًا فَيَذْرُهَا أَيِ الْأَرْضَ قَاعًا صَفْصَفًا أَيْ بُسُطًا وَاحِدًا، وَالْقَاعُ هُوَ الْمُنْبَسِطُ الْمُسْتَوِي مِنَ الْأَرْضِ وَالصَّفْصَفُ الْأَمْلَسُ {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} [طه: 107]، أَيْ لَا تَرَى فِي الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ وَادِيًا وَلَا رَابِيَةً وَلَا صَدْعًا وَلَا أَكَمَةً وَلَا مَكَانًا مُنْخَفِضًا وَلَا مُرْتَفِعًا كَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} أَيْ قَائِمَةً وَاقِفَةً {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النَّمْلِ: 88]، أَيْ تَسِيرُ سَيْرَ السَّحَابِ حَتَّى تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ، قَالَ الْبَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ عَظِيمٍ وَكُلَّ جَمْعٍ كَثِيرٍ يَقْصُرُ عَنْهُ الْبَصَرُ لِكَثْرَتِهِ وَبَعُدَ مَا بَيْنَ أَطْرَافِهِ فَهُوَ فِي حُسْبَانِ النَّاظِرِ وَاقِفٌ وَهُوَ سَائِرٌ، كذلك سير الجبال لا يرى يوم القيامة لعظمها، كما أن سير السحاب لا يرى لعظمه وهو سائر وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} [الْوَاقِعَةِ: 5]، أَيْ فُتِّتَتْ فَتًّا، وَقَالَ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ فَصَارَتْ كَالدَّقِيقِ الْمَبْسُوسِ وَهُوَ الْمَبْلُولُ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالسُّدِّيُّ كُسِرَتْ كَسْرًا وَقَالَ الْكَلْبِيُّ سُيِّرَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ تَسْيِيرًا، وَقَالَ الْحَسَنُ قُلِعَتْ مِنْ أَصْلِهَا فَذَهَبَتْ، وَنَظِيرُهَا {فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [طه: 105]، وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ.
جُعِلَتْ كَثِيبًا مَهِيلًا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ شَامِخَةً طَوِيلَةً {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الْوَاقِعَةِ: 6]، غُبَارًا مُتَفَرِّقًا كَالَّذِي يُرَى فِي شُعَاعِ الشَّمْسِ إِذَا دَخَلَ الْكُوَّةَ وَهُوَ الْهَبَاءُ وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ عَنِ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {هَبَاءً مُنْبَثًّا} كَوَهَجِ الْغُبَارِ يَسْطَعُ ثُمَّ يَذْهَبُ، فَلَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْهَبَاءُ يَطِيرُ مِنَ النَّارِ إِذَا اضْطَرَمَتْ، يَطِيرُ مِنْهُ الشَّرَرُ، فَإِذَا وَقَعَ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ الْمُنْبَثُّ الَّذِي قَدْ ذَرَتْهُ الرِّيحُ وَبَثَّتْهُ، وَقَالَ قَتَادَةُ هَبَاءً مُنْبَثًّا كَيَبِيسِ الشَّجَرِ الَّذِي تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ الْعِهْنُ الصُّوفُ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ كَالصُّوفِ الْمَصْبُوغِ، وَلَا يُقَالُ عِهْنٌ إِلَّا لِلْمَصْبُوغِ، وَقَالَ الْحَسَنُ كَالصُّوفِ الْأَحْمَرِ وَهُوَ أَضْعَفُ الصُّوفِ، وَقَالَ الْمَنْفُوشُ الْمَنْدُوفُ وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ الْمَنْفُوشُ الَّذِي قَدْ شَرَعَ فِي الذَّهَابِ وَالتَّمَزُّقِ، وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {كَثِيبًا مَهِيلًا} أَيْ تَصِيرُ كَكُثْبَانِ الرَّمْلِ بَعْدَمَا كَانَتْ حِجَارَةً صَمَّاءَ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ رَمْلًا سَائِلًا قَالَ الْكَلْبِيُّ هُوَ الرَّمْلُ الَّذِي إِذَا أَخَذْتَ مِنْهُ شَيْئًا تَبِعَكَ مَا بَعْدَهُ يُقَالُ أَهَلْتُ الرَّمْلَ أُهِيلُهُ هَيْلًا إِذَا حَرَّكْتَ أَسْفَلَهُ حَتَّى انْهَالَ مِنْ أَعْلَاهُ وَقَالَ {نُسِفَتْ} قُلِعَتْ مِنْ أَمَاكِنِهَا، وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ ذَهَبَ بِهَا فَلَا يَبْقَى لَهَا عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ، وَقَالَ فِي {فَكَانَتْ سَرَابًا} أَيْ يُخَيَّلُ إِلَى النَّاظِرِ أَنَّهَا شَيْءٌ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَبَعْدَ هَذَا تَذْهَبُ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا عَيْنَ وَلَا أَثَرَ وَقَالَ فِي {وَتَسِيرُ الْجِبَالُ} تَذْهَبُ عَنْ أَمَاكِنِهَا وَتَزُولُ، {وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} [الْكَهْفِ: 47]، أَيْ بَادِيَةً ظَاهِرَةً لَيْسَ فِيهَا مَعْلَمٌ لِأَحَدٍ وَلَا مَكَانٌ يُوَارِي أَحَدًا، بَلِ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ ضَاحُونَ لِرَبِّهِمْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ {وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} [الْكَهْفِ: 47]، لَا حَجَرَ فِيهَا وَلَا غَيَابَةَ، وَقَالَ قَتَادَةُ أَيْضًا لَا بِنَاءَ وَلَا شَجَرَ وَقَالَ الْبَغَوِيُّ {فَدُكَّتَا} كُسَرَتَا {دَكَّةً} كَسْرَةً {وَاحِدَةً} قَالَ وَأَوَّلُ مَا تَتَغَيَّرُ الْجِبَالُ تَصِيرُ رَمْلًا مَهِيلًا، ثُمَّ عِهْنًا مَنْفُوشًا، ثُمَّ تَصِيرُ هَبَاءً مَنْثُورًا.
وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَا الْبِحَارُ فَإِنَّهَا مَسْجُورَةٌ، قَدْ فُجِّرَتْ إِلَخْ، يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التَّكْوِيرِ: 6]، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} [الِانْفِطَارِ: 3].
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَجَّرَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ وَقَالَ الْحَسَنُ فَجَّرَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ فَذَهَبَ مَاؤُهَا وَقَالَ قَتَادَةُ اخْتَلَطَ عَذْبُهَا بِمَالِحِهَا وَقَالَ الْكَلْبِيُّ مُلِئَتْ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {سُجِّرَتْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أُوقِدَتْ فَصَارَتْ نَارًا تَضْطَرِمُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ يَعْنِي فُجِّرَ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ، الْعَذْبُ وَالْمِلْحُ، فَصَارَتْ كُلُّهَا بَحْرًا وَاحِدًا وَقَالَ الْكَلْبِيُّ مُلِئَتْ وَقِيلَ صَارَتْ مِيَاهُهَا بَحْرًا وَاحِدًا مِنَ الْحَمِيمِ لِأَهْلِ النَّارِ وَقَالَ الْحَسَنُ يَبِسَتْ وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ، قَالَ ذَهَبَ مَاؤُهَا فلم يبق فيها قَطْرَةٌ وَالْمَعْنَى الْمُتَحَصِّلُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهَا يُفَجَّرُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ فَتَمْتَلِئُ ثُمَّ تُسَجَّرُ نَارًا فَيَذْهَبُ مَاؤُهَا وَلِهَذَا جَمَعَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُمَا فَقَالَ: مَسْجُورَةٌ قَدْ فُجِّرَتْ والله تعالى أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَلِكَ الْقَمَرَانِ يَأْذَنُ رَبُّنَا لَهُمَا فَيَجْتَمِعَانِ إِلَخْ يُشِيرُ إِلَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [الْقِيَامَةِ: 8-9]، وَقَوْلِهِ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التَّكْوِيرِ: 1]، خَسَفَ أَظْلَمَ وذهب نوره وضوءه {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [الْقِيَامَةِ: 9]، أَيْ صَارَا أَسْوَدَيْنِ مُكَوَّرَيْنِ كَأَنَّهُمَا ثَوْرَانِ عَقِيرَانِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التَّكْوِيرِ: 1]: أَظْلَمَتْ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنْهُ: ذَهَبَتْ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: اضْمَحَلَّتْ وَذَهَبَتْ.
وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ.
وَقَالَ قتادة: ذهب ضوءها.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كُوِّرَتْ غُوِّرَتْ.
وَقَالَ ربيع بن خثيم: رُمِيَ بِهَا.
وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: أُلْقِيَتْ.
وَعَنْهُ أَيْضًا: نُكِّسَتْ.
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: تَقَعُ فِي الْأَرْضِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ عِنْدَنَا مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ التَّكْوِيرَ جَمْعُ الشَّيْءِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ، وَمِنْهُ تَكْوِيرُ الْعِمَامَةِ، وَجَمْعُ الثِّيَابِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُوِّرَتْ} جُمِعَ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ ثُمَّ لُفَّتَ فَرُمِيَ بِهَا، وَإِذَا فُعِلَ بِهَا ذلك ذهب ضوءها.
وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التَّكْوِيرِ: 1]. قَالَ: يُكَوِّرُ اللَّهُ تَعَالَى الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْبَحْرِ، وَيَبْعَثُ اللَّهُ تَعَالَى رِيحًا دَبُورًا فَيُضْرِمُهَا نَارًا.
وَكَذَا قَالَ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ.
وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التَّكْوِيرِ: 1]، قَالَ: «كُوِّرَتْ فِي جَهَنَّمَ».
وَلِلْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يُكَوَّرَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وَلِلْبَزَّارِ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ثَوْرَانِ فِي النَّارِ عَقِيرَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَكَوَاكِبُ الْأَفْلَاكِ تُنْثَرُ كُلُّهَا إِلَخْ يُشِيرُ إِلَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} [التَّكْوِيرِ: 2]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ} [الِانْفِطَارِ: 2]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} [الْمُرْسَلَاتِ: 8]، أَيْ مُحِيَ نورها وذهب ضوءها وَانْكَدَرَتْ تَنَاثَرَتْ مِنَ السَّمَاءِ وَتَسَاقَطَتْ عَلَى الْأَرْضِ، يُقَالُ انْكَدَرَ الطَّائِرُ إِذَا سَقَطَ عَنْ عُشِّهِ قَالَ الْكَلْبِيُّ وَعَطَاءٌ تُمْطِرُ السَّمَاءُ يَوْمَئِذٍ نُجُومًا، فَلَا يَبْقَى نَجْمٌ إِلَّا وَقَعَ.
وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَا السَّمَاءُ تُشَقُّ شَقًّا ظَاهِرًا وَتَمُورُ إِلَخْ يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الِانْشِقَاقِ: 1]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} [الْحَاقَّةِ: 16]، وَقَوْلِهِ: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} [الْفُرْقَانِ: 25]، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} [الْمُزَّمِّلِ: 18]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [الِانْفِطَارِ: 1]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} [التَّكْوِيرِ: 11]، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ} [الْمُرْسَلَاتِ: 9]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا} [النَّبَأِ: 19]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} [الطُّورِ: 9]، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} [الْمَعَارِجِ: 8]، وَقَوْلِهُ: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرَّحْمَنِ: 37]، وَقَوْلِهِ: {انْشَقَّتْ} أَيْ صَارَتْ أَبْوَابًا لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ {فَكَانَتْ وَرْدَةً} عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَغَيَّرَ لَوْنُهَا، وَعَنْهُ قَالَ كَالْفَرَسِ الْوَرْدِ وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ كَالْبِرْذَوْنِ الْوَرْدِ، وَحَكَى الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْفَرَسَ الْوَرْدَ تَكُونُ فِي الرَّبِيعِ صَفْرَاءَ وَفِي الشِّتَاءِ حَمْرَاءَ، فَإِذَا اشْتَدَّ الْبَرْدُ اغبر لونها، فشبه السَّمَاءَ فِي تَلَوُّنِهَا عِنْدَ انْشِقَاقِهَا بِهَذَا الْفَرَسِ فِي تَلَوُّنِهِ {كَالدِّهَانِ} قَالَ الضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ هُوَ جَمْعُ دُهْنٍ، شَبَّهَ السَّمَاءَ فِي تَلَوُّنِهَا بِلَوْنِ الْوَرْدِ مِنَ الْخَيْلِ، وَشَبَّهَ الْوَرْدَةَ فِي اخْتِلَافِ أَلْوَانِهَا بِالدُّهْنِ وَاخْتِلَافِ أَلْوَانِهِ وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ كَالدِّهَانِ كَعَصِيرِ الزَّيْتِ يَتَلَوَّنُ فِي السَّاعَةِ أَلْوَانًا، وَقَالَ مُقَاتِلٌ كَدُهْنِ الْوَرْدِ الصَّافِي وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ تَصِيرُ السَّمَاءُ كَالدُّهْنِ الذَّائِبِ، وَذَلِكَ حِينَ يُصِيبُهَا حَرُّ جَهَنَّمَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْكَلْبِيُّ كَالدِّهَانِ أَيْ كَالْأَدِيمِ الْأَحْمَرِ وَجَمْعُهُ دُهْنَةٌ وَدُهْنٌ، وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ كَلَوْنِ الدُّهْنِ فِي الصُّفْرَةِ وَقَالَ قَتَادَةُ هِيَ الْيَوْمَ خَضْرَاءُ وَيَوْمَئِذٍ لَوْنُهَا إِلَى الْحُمْرَةِ، يَوْمٌ ذُو أَلْوَانٍ وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَذُوبُ كَمَا يَذُوبُ الدُّرْدِيُّ وَالْفِضَّةُ فِي السَّبْكِ، وَتَتَلَوَّنُ كَمَا تَتَلَوَّنُ الْأَصْبَاغُ الَّتِي يُدْهَنُ بِهَا، فَتَارَةً حَمْرَاءُ وَصَفْرَاءُ وَزَرْقَاءُ وَخَضْرَاءُ وَذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ الْأَمْرِ وَهَوْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ الْعَظِيمِ وَلِلْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبْعَثُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاءُ تَطِشُّ عَلَيْهِمْ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ الطَّشُّ الْمَطَرُ الضَّعِيفُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} [الطُّورِ: 9]. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ تَتَحَرَّكُ تَحْرِيكًا وَعَنْهُ هُوَ تَشَقُّقُهَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ تَدُورُ دَوْرًا وَقَالَ الضَّحَّاكُ اسْتِدَارَتُهَا وَتَحَرُّكُهَا لِأَمْرِ اللَّهِ وَمَوْجِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّهُ التَّحَرُّكُ فِي اسْتِدَارَةٍ وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ تَخْتَلِفُ أَجْزَاؤُهَا بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ وَقِيلَ تَضْطَرِبُ وَقَالَ الْبَغَوِيُّ تَدُورُ كَدَوَرَانِ الرَّحَى وَتَتَكَفَّأُ بِأَهْلِهَا تَكَفُّؤَ السَّفِينَةِ، قَالَ وَالْمَوْرُ يَجْمَعُ هَذِهِ الْمَعَانِي كُلَّهَا فَهُوَ فِي اللُّغَةِ الذَّهَابُ وَالْمَجِيءُ وَالتَّرَدُّدُ وَالدَّوَرَانُ وَالِاضْطِرَابُ وَقَالَ تَعَالَى: {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [الْحَاقَّةِ: 16]، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ تَنْشَقُّ السَّمَاءُ مِنَ الْمَجَرَّةِ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْمَلَكُ اسْمُ جِنْسٍ أَيِ الْمَلَائِكَةُ، عَلَى أَرْجَاءِ السَّمَاءِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى مَا لَمْ يَرَ مِنْهَا أَيْ حَافَاتِهَا، وَكَذَلِكَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَقَالَ الضَّحَّاكُ أَيْ أَطْرَافِهَا وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ أَبْوَابِهَا وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ عَلَى مَا اسْتَرَقَ مِنَ السَّمَاءِ يَنْظُرُونَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} [الْمُزَّمِّلِ: 18]، مُتَشَقِّقٌ، قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ أَيْ بِسَبَبِهِ مِنْ شِدَّتِهِ وَهَوْلِهِ وَ{فُرِجَتْ} قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ أَيِ انْفَطَرَتْ وَانْشَقَّتْ وَتَدَلَّتْ أَرْجَاؤُهَا وَوَهَتْ أَطْرَافُهَا.
وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْعَرْشُ وَالْكُرْسِيُّ لَا يُفْنِيهِمَا إِلَخْ وَكَذَا قَوْلُهُ وَالْحُورُ لَا تَفْنَى كَذَلِكَ جَنَّةُ الْمَأْوَى إِلَخْ يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مَخْلُوقَةٌ لِلْبَقَاءِ لَا لِلْفَنَاءِ، وَالْمَخْلُوقُ لِلْبَقَاءِ بَاقٍ لَا بِنَفْسِهِ بَلْ بِإِبْقَاءِ اللَّهِ إِيَّاهُ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْجَنَّةَ وَنَعِيمَهَا وَدَوَامَهَا وَخُلُودَ أَهْلِهَا فِيهَا، وَذَكَرَ النَّارَ وَجَحِيمَهَا وَدَوَامَ عَذَابِهَا وَخُلُودَ أَهْلِهَا فِيهَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ مَا تَيَسَّرَ مِنْهَا وَقَدْ جَاءَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزُّمَرِ: 68]، إِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الشُّهَدَاءُ وَالْحُورُ الْعِينِ وَرِضْوَانُ وَزَبَانِيَةُ الْعَذَابِ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ذَلِكَ إِنَّهُ هُوَ اعْتِقَادُ السَّلَفِ الصَّالِحِ قَالَ فَإِنِ احْتَجَّ مُبْتَدِعٌ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [الْقَصَصِ: 88]، وَ{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرَّحْمَنِ: 26]، قِيلَ إِنَّ الْمُرَادَ كُلُّ شَيْءٍ كُتِبَ عَلَيْهِ الْهَلَاكُ وَالْفَنَاءُ هَالِكٌ فَانٍ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْجَنَّةَ دَارُ مَقَامٍ وَسُرُورٍ وَسَلَامَةٍ وَالْمَوْتَ ضِدُّ ذَلِكَ فَكَيْفَ يُكْتَبُ عَلَى مَنْ فِيهَا مَوْتٌ وَكَذَا جَاءَ فِي الْعَرْشِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُهُ أَنْ يَأْخُذَ الصُّورَ مِنْ إِسْرَافِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ مَوْتِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ الصُّورِ الطَّوِيلِ وَقَوْلُهُ وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ جَهْمٌ إِنَّهَا عَدَمٌ إِلَخْ يَعْنِي أَنَّ لِجَهْمٍ إِلْحَادًا فِي آيَاتِ اللَّهِ جَمِيعِهَا، فَكَمَا أَلْحَدَ فِي آيَاتِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ أَلْحَدَ أَيْضًا فِي آيَاتِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَجَحَدَ وُجُودَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ الْآنَ، وَكَذَلِكَ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِيهِمَا وَقَضَى أَيْضًا بِفَنَائِهِمَا وَأَنَّهُمَا يَفْنَيَانِ وَمَنْ فِيهِمَا، وَذَلِكَ بِخِلَافِ النُّصُوصِ الْقَوِيمَةِ وَالْفِطَرِ الْمُسْتَقِيمَةِ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
وَالْأَنْبِيَاءُ فَإِنَّهُمْ تَحْتَ الثَّرَى ** أَجْسَادُهُمْ حُفِظَتْ مِنَ الدِّيدَانِ

إِلَخْ.
يُشِيرُ إِلَى مَا فِي السُّنَنِ وَغَيْرِهَا وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَفْضَلَ أَيَّامِكُمْ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ وَفِيهِ قُبِضَ، وَفِيهِ النَّفْخَةُ وَفِيهِ الصَّعْقَةُ، فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرِمْتَ قَالَ: «يَقُولُونَ بَلَيْتَ» قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ».
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَيْمَنَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ يَوْمٌ مَشْهُودٌ تَشَهَدُهُ الْمَلَائِكَةُ، وَإِنَّ أَحَدًا لَا يُصَلِّي عَلَيَّ إِلَّا عُرِضَتْ عَلَيَّ صِلَاتُهُ حَتَّى يَفْرُغَ» قَالَ قُلْتُ: وَبَعْدَ الْمَوْتِ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ» وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ لَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يُصَلِّي عَلَيَّ إِلَّا بَلَغَنِي صَلَاتُهُ قُلْنَا وَبَعْدَ وَفَاتِكَ قَالَ وَبَعْدَ وَفَاتِي، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَحَادِيثُ فِي بُلُوغِ صَلَاتِنَا إِلَيْهِ وَعَرْضِ أَعْمَالِنَا عَلَيْهِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَبَعْضُهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ لَكِنْ بِدُونِ ذِكْرِ الْأَجْسَادِ.
وَقَدْ ثَبَتَ أَيْضًا فِي أَجْسَادِ الشُّهَدَاءِ أَنَّهَا لَا تَبْلَى فَكَيْفَ بِأَجْسَادِ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ لَمَّا حَضَرَ أَحَدٌ دَعَانِي أَبِي مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ: لِي مَا أُرَانِي إِلَّا مَقْتُولًا فِي أَوَّلِ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنِّي لَا أَتْرُكُ بَعْدِي أَعَزَّ عَلَيَّ مِنْكَ غَيْرَ نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّ عَلَيَّ دَيْنًا فَاقْضِهِ وَاسْتَوْصِ بِأَخَوَاتِكَ خَيْرًا فَأَصْبَحْنَا وَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ فَدَفَنْتُ مَعَهُ آخَرَ فِي قَبْرِهِ، ثُمَّ لَمْ تَطِبْ نَفْسِي أَنْ أَتْرُكَهُ مَعَ آخَرَ فَاسْتَخْرَجْتُهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَإِذَا هُوَ كَيَوْمِ وَضَعْتُهُ هُنَيَّةَ غَيْرَ أُذُنِهِ.
وَلِأَصْحَابِ السُّنَنِ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ وَفِيهِ فَبَيْنَا أَنَا فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ إِذْ جَاءَنِي رَجُلٌ فَقَالَ: يَا جَابِرُ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَاللَّهِ لَقَدْ أَثَارَ أَبَاكَ عُمَّالُ مُعَاوِيَةَ فَبَدَأَ فَخَرَجَ طَائِفَةٌ مِنْهُ، فَأَتَيْتُهُ فَوَجَدْتُهُ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي دَفَنْتُهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ إِلَّا مَا لَمْ يَدَعِ الْقَتْلَ أَوِ الْقَتِيلَ.
وَلِلْبَيْهَقِيِّ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا أَجْرَى مُعَاوِيَةُ الْعَيْنَ عِنْدَ قَتْلَى أُحُدٍ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً اسْتَصْرَخْنَاهُمْ إِلَيْهِمْ فَأَتَيْنَاهُمْ فَأَخْرَجْنَاهُمْ، فَأَصَابَتِ الْمِسْحَاةُ قَدَمَ حَمْزَةَ فَانْبَعَثَ دَمًا وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْهُ قَالَ فَأَخْرَجْنَاهُمْ كَأَنَّمَا دُفِنُوا بِالْأَمْسِ.
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُجْرِيَ الْعَيْنَ نَادَى مُنَادِيهِ مَنْ كَانَ لَهُ قَتِيلٌ بِأُحُدٍ فَلْيَشْهَدْ قَالَ جَابِرٌ فَحُفِرَ عَنْهُمْ فَوَجَدْتُ أَبِي فِي قَبْرِهِ كَأَنَّمَا هُوَ نَائِمٌ عَلَى هَيْئَتِهِ وَوَجَدْنَا جَارَهُ فِي قَبْرِهِ-عَمْرَو بْنَ الْجَمُوحِ- وَيَدُهُ عَلَى جُرْحِهِ، فَأُزِيلَتْ عَنْهُ فَانْبَعَثَ جُرْحُهُ دَمًا وَيُقَالُ إِنَّهُ فَاحَ مِنْ قُبُورِهِمْ مِثْلَ رِيحِ الْمِسْكِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَذَلِكَ بَعْدَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ يَوْمِ دُفِنُوا وَفِي ذَلِكَ آثَارٌ كَثِيرَةٌ.
وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَاكَ عَجَبُ الظَّهْرِ لَا يَبْلَى إِلَخْ يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمِ قَرِيبًا وَفِيهِ «وَلَيْسَ مِنَ الْإِنْسَانِ شَيْءٌ إِلَّا سَيَبْلَى، إِلَّا عَظْمًا وَهُوَ عَجْبُ الذَّنَبِ، وَمِنْهُ يُرَّكَبُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَلِكَ الْأَرْوَاحُ لَا تَبْلَى إِلَخْ يُشِيرُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضِهِ قَرِيبًا مِنَ الْآيَاتِ الصَّرِيحَةِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنْ أَنَّ الْأَرْوَاحَ لَيْسَتْ هِيَ مُطْلَقَ حَيَاةِ الْجِسْمِ الْعَارِضَةِ، بَلْ هِيَ حَقِيقَةٌ أُخْرَى مُسْتَقِلَّةٌ يَعْمُرُ الْجَسَدُ بِحُلُولِهَا.
فِيهِ وَيَفْسَدُ بِخُرُوجِهَا مِنْهُ، وَهِيَ النَّسَمَةُ الَّتِي يَمُوتُ الْإِنْسَانُ بِخُرُوجِهَا مِنْ جَسَدِهِ وَأَنَّهَا لَهَا حَقِيقَةٌ، وَأَنَّهَا تُنْفَخُ وَتُقْبَضُ وَتُصْعَدُ وَتُهْبَطُ، وَأَنَّهَا بَعْدَ مُفَارَقَتِهَا الْجَسَدَ إِمَّا أَنْ تَنْعَمَ أَوْ تُعَذَّبَ، وَإِمَّا أَنْ تُفْتَحَ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ حَتَّى يَنْتَهِيَ بِهَا إِلَى اللَّهِ أَوْ تُغْلَقَ دُونَهَا فَيَذْهَبُ بِهَا إِلَى سِجِّينٍ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَأَنَّهَا تُجْمَعُ فِي الصُّورِ وَتَطِيرُ بِنَفْخِ إِسْرَافِيلَ إِذَا أَمَرَهُ اللَّهُ فَتَطِيرُ كُلُّ رُوحٍ إِلَى جَسَدِهَا الَّذِي كَانَتْ تَعْمُرُهُ فِي الدُّنْيَا حَتَّى تَدْخُلَهُ وَتَدِبَّ فِيهِ دَبِيبَ السُّمِّ فِي اللَّدِيغِ حَتَّى يَقُومَ بَشَرًا سَوِيًّا وَأَنَّهَا بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنَ الْجَسَدِ تُكَلَّمُ وَتَتَكَلَّمُ وَتُسْأَلُ وَتُجِيبُ وَتُخْبَرُ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الرُّوحِ وَكُنْهِهَا فَلَيْسَ لِبَشَرٍ الْعِلْمُ بِهِ وَلَا الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ وَلِهَذَا لَمَّا سَأَلَتِ الْيَهُودُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى جَوَابَهُمْ {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الْإِسْرَاءِ: 85]، وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
وَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يُقِرَّ الْجَهْمُ مَا ** الْأَرْوَاحُ خارجة من الْأَبْدَانِ

ولكنها مِنْ بَعْضِ أَعْرَاضٍ بِهَا

إِلَخْ.
يَعْنِي أَنَّ مَذْهَبَ الْجَهْمِ فِي الرُّوحِ هُوَ مَذْهَبُ الْفَلَاسِفَةِ الْحَائِرِينَ، أَنَّ الرُّوحَ لَيْسَتْ شَيْئًا يَقُومُ بِنَفْسِهِ بَلْ عَرَضٌ وَالْعَرَضُ فِي اصْطِلَاحِهِمْ هُوَ مَا لَا يَسْتَقِلُّ وَلَا يَسْتَقِرُّ، فَمَنْزِلَةُ الرُّوحِ عِنْدَهُمْ مِنَ الْجَسَدِ كَمَنْزِلَةِ السَّمْعِ مِنَ السَّامِعِ وَالْبَصَرِ مِنَ الْمُبْصِرِ، يَذْهَبُ بِذَهَابِهِ، بَلْ قَدْ يَذْهَبُ الْبَصَرُ وَالسَّمْعُ وَالذَّاتُ الَّتِي يَقُومُ بِهَا مَوْجُودَةٌ، فجحدوا أن لكون النَّفْسُ الَّتِي هِيَ الرُّوحُ شَيْئًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ وَأَنَّهُ يُنْفَخُ فِي الْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ الثَّالِثَةِ وَأَنَّ {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزُّمَرِ: 42]، وَجَحَدُوا كَوْنَهَا شَيْئًا يُسَاقُ وَيُنْزَعُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَيُعْرَجُ بِهَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيَفْتَحُ لَهَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ إِنْ كَانَتْ مُحْسِنَةً أَوْ تُغْلَقُ دُونَهَا إِنْ كَانَتْ مُسِيئَةً، وَلَا أَنَّ رُوحَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى وَأَرْوَاحَ الْكُفَّارِ فِي سِجِّينٍ فَكَذَّبُوا بِالْكِتَابِ، وَبِمَا أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ، فَضَّلُوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ.
وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
فالشأن للأرواح عند فِرَاقِهَا ** أَبْدَانَهَا وَاللَّهُ أَعْظَمُ شَانِ

يَعْنِي أَنَّهُ أَعْظَمُ شَأْنًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَكُونُ إِذْ ذَاكَ الْخَبَرُ عِيَانًا وَالْغَيْبُ شَهَادَةً وَالْمَسْتُورُ مَكْشُوفًا وَالْمَخْبَأُ ظَاهِرًا، فَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ وَلَا عِلْمَ الْيَقِينِ كَعَيْنِ الْيَقِينِ، فَالْمُصَدِّقُ يَرَى وَيَجِدُ مِصْدَاقَ مَا جَاءَ بِهِ النَّصُّ كَمَا عَلِمَهُ وَتَيَقَّنَهُ فَيَزْدَادُ بُشْرَى وَفَرَحًا وَسُرُورًا، وَالْمُكَذِّبُ يَرَى وَيَجِدُ حَوَرَ تَكْذِيبِهِ بِذَلِكَ، وَغِبَّ مَا جَنَاهُ عَلَى نَفْسِهِ وَيَذُوقُ وَبَالَ أَمْرِهِ، وَكُلٌّ يُفْضِي إِلَى مَا قَدَّمَ.
وَقَوْلُهُ إِمَّا نُعَيْمٌ أَوْ عَذَابٌ إِلَخْ يُشِيرُ إِلَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الْوَاقِعَةِ: 88-96]، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَدَّمْنَا مِنْهَا جُمْلَةً وَقَدَّمْنَا مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي أَحْوَالِ الِاحْتِضَارِ وَالْبَرْزَخِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مَا يَبْلُغُ حَدَّ التَّوَاتُرِ، فَلْيَرْجِعْ إِلَيْهِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَتَصِيرُ طَيْرًا سَارِحًا مَعَ شَكْلِهَا إِلَخْ يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْمُسَلْسَلِ بِالْأَئِمَّةِ نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ يَعْلُقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ.
وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَكِنَّ أَرْوَاحَ الَّذِينَ اسْتُشْهِدُوا فِي جَوْفِ طَيْرٍ أَخْضَرَ إِلَخْ يُشِيرُ إِلَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آلِ: عِمْرَانَ 169]، الْآيَاتِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا.
وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ سَأَلْنَا عَبْدَ اللَّهِ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آلِ: عِمْرَانَ 169].
قَالَ أَمَّا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى الْقَنَادِيلِ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ عَزَّ وَجَلَّ اطِّلَاعَةً فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا قَالُوا أَيُّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَمْ يَتْرُكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا قَالُوا يَا رَبِّ نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا» وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ.
وَقَوْلُهُ:
وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ إِخْرَاجَ الْوَرَى ** بَعْدَ الممات إلى معاد ثان

أَلْقَى عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي هُمْ تَحْتَهَا

...................إِلَخْ.
يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِطُولِهِ وَفِيهِ «ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ-أَوْ قَالَ يُنْزِلُ اللَّهُ- تَعَالَى مَطَرًا كَأَنَّهُ الطَّلُّ أَوِ الظِّلُّ، فَتَنْبُتُ مِنْهُ أَجْسَادُ النَّاسِ» الْحَدِيثَ وَفِي حَدِيثِ الصُّورِ الطَّوِيلِ: «ثُمَّ يُنْزِلُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَاءً مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ، ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ السَّمَاءَ أَنْ تُمْطِرَ فَتُمْطِرُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا حَتَّى يَكُونَ الْمَاءُ فَوْقَهُمُ اثَّنَى عَشَرَ ذِرَاعًا، ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ الْأَجْسَادَ أَنْ تَنْبُتَ، فَتَنْبُتُ كَنَبَاتِ الطَّرَاثِيثِ أَوْ كَنَبَاتِ الْبَقْلِ» وَهُوَ الَّذِي عَنَاهُ بِقَوْلِهِ عَشْرًا وَعَشْرًا بَعْدَهَا عَشْرَانِ.
وَقَوْلُهُ أَوْحَى لَهَا رَبُّ السَّمَاءِ فَتَشَقَّقَتْ إِلَخْ يُشِيرُ إِلَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} [الِانْفِطَارِ: 4]، وَقَوْلِهِ: {أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ} [الْعَادِيَّاتِ: 9].
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بُحِثَتْ، وَقَالَ السُّدِّيُّ تَبَعْثَرَ تَحَرَّكَ فَيَخْرُجُ مَنْ فِيهَا وَقَالَ الْبَغَوِيُّ بُحِثَتْ وَقُلِبَ تُرَابُهَا وَبُعِثَ مَنْ فِيهَا مِنَ الْمَوْتَى أَحْيَاءً يُقَالُ بَعْثَرْتُ الْحَوْضَ وَبَحْثَرْتُهُ إِذَا قَلَبْتُهُ فَجَعَلْتُ أَسْفَلَهُ أَعْلَاهُ، وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {إِذَا بُعْثِرَ} أُثِيرَ وَأُخْرِجَ {مَا فِي الْقُبُورِ} أَيْ مِنَ الْأَمْوَاتِ.
وَقَوْلُهُ وَتَخَلَّتِ الْأُمُّ الْوَلُودُ إِلَخْ يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} [الِانْشِقَاقِ: 4].
قَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدٌ وَقَتَادَةُ أَلْقَتْ مَا فِي بَطْنِهَا مِنَ الْأَمْوَاتِ وتخلت منهم. ا. هـ.
وَقَوْلُهُ وَأَخْرَجَتْ أَثْقَالَهَا إِلَخْ يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} إِلَى قَوْلِهِ: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزَّلْزَلَةِ: 2-5].
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَعْنِي أَلْقَتْ مَا فِيهَا مِنَ الْمَوْتَى، قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا بِإِلْقَائِهَا أَفْلَاذَ كَبِدِهَا أَمْثَالَ الْأُسْطُوَانِ وَقَالَ الْبَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَثْقَالُهَا مَوْتَاهَا وَكُنُوزُهَا، فَتُلْقِيهَا عَلَى ظَهْرِهَا.
وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَاللَّهُ يُنْشِئُ خَلْقَهُ أَيْ هُمْ أَنْفُسَهُمْ لَا غَيْرَهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ فِي نَشْأَةٍ أُخْرَى إِلَخْ يُشِيرُ إِلَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} [النَّجْمِ: 45]، فَهَذِهِ هِيَ النَّشْأَةُ الْأُولَى قَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى} [النَّجْمِ:4 47]، وَهُوَ الْبَعْثُ بَعْدَ الْمَوْتِ قَالَ تَعَالَى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ} [الْوَاقِعَةِ: 57-62]، وَمَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَبْعَثُ الْمَوْتَى أَنْفُسَهُمْ وَيَجْمَعُهُمْ بَعْدَ مَا فَرَّقَهُمْ وَيَنْشُرُهُمْ بَعْدَ مَا مَزَّقَهُمْ، وَيُعِيدُهُمْ كَمَا خَلَقَهُمْ، قَدْ عَلِمَ اللَّهُ مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فَاطِرٍ: 44].
وَقَوْلُهُ مَا قَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْدَمُ خَلْقَهُ إِلَخْ أَيْ لَمْ يَقُلِ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ يَعْدَمُهُمُ الْعَدَمَ الْمَحْضَ وَيَأْتِي بِغَيْرِهِمْ، وَلَا إِنَّ الْمُثَابَ غَيْرُ مَنْ عَمِلَ الطَّاعَاتِ فِي الدُّنْيَا وَلَا إِنَّ الْمُعَذَّبَ غَيْرُ مَنْ مَرَدَ عَلَى الْمَعَاصِي {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النِّسَاءِ: 40]، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فُصِّلَتْ: 46]، {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غَافِرٍ: 31]، بَلْ قَالَ تَعَالَى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55]، فَالَّذِينَ خَلَقَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ هُمُ الَّذِينَ أَعَادَهُمْ فِيهَا، وَهُمُ الَّذِينَ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا، لَيْسُوا غَيْرَهُمْ كَمَا يَقُولُ الزَّنَادِقَةُ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَتَخْرُجُونَ مِنَ الْأَصْوَاءِ وَمِنْ مَصَارِعِكُمْ» وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهُ غَيْرُكُمُ الَّذِي يَخْرُجُ.
وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْبَابِ يَطُولُ جِدًّا، وَالنُّصُوصُ فِيهَا لَا تُحْصَى كَثْرَةً، وَإِنَّمَا أَشَرْنَا إِلَى بَعْضٍ مِنْ كُلِّ وَدَقٍ مِنْ جَلٍّ وَقَطْرَةٍ مِنْ بَحْرٍ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيقِ عَلَى الْأَبْيَاتِ الَّتِي سُقْنَا مِنْ نُونِيَّةِ ابْنِ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ غَايَةِ الِاخْتِصَارِ وَالْإِيجَازِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ وَلْنَرْجِعْ إِلَى شَرْحِ أَبْيَاتِ الْمَتْنِ الْمَذْكُورِ.